
في عالم كرة القدم المليء بالنجوم والأضواء حيث يُقاس المجد بعدد الأهداف وتُحدد القيمة بالعقود المليونية والهتافات الحماسية، يبرز اسم مختلف تمامًا لا يشبه الصخب ولا يغازل الكاميرات، لم يركض يومًا وراء الأضواء ولم تُغره الشهرة، بل اختار طريقًا ثابتًا كدعاء الفجر، نقيًا كالماء في يد متوضئ، هادئًا كالمتعبد المنعزل في محرابه، يكتب سيرته بهدوء وينحت اسمه في ذاكرة الجماهير بالأخلاق لا بالضجيج.
محمد عبد الشافي ابن «المرج»، الفتى الذي لم يُغره صخب الجماهير أو نداء المال، بل اختار دربًا بعيدًا عن الصخب وقريبًا من التأمل، جعل من كرة القدم سلوكًا تعبديًا، ومن الملعب سجادة صمت، ومن الركض خشوعًا، ومن اللمسة ذكرًا، ومن التمريرة دعاء في حضرة المحبين.
وُلد في الأول من يوليو عام 1985، وكحال العاشقين الحقيقيين لم تكن بداياته ممهدة أو مكللة بزهور المجد، سلك الطرق الوعرة وركض في ملاعب إنبي وغزل المحلة كما يركض السالك في بداية طريقه، يخطو بحذر ويواصل بحب وصبر بعد رحيله من ميت عقبة مودعًا زملاءه في فرق الناشئين.
هناك، في زوايا الملاعب، تعلّم أن يصغي للكرة كما يصغي العارف لنبض الخفاء، لم يكن يطاردها بجنون بل يقترب منها بخشوع، يلامسها كأنها سر، ويحترمها كأنها كائن حي له نبضه وشأنه.
«عبد الشافي» ليس مجرد ظهير أيسر، بل كان حارسًا غير معلن لروح اللعبة، مؤمنًا بأن في كل مواجهة معنى، وفي كل تمريرة هدفًا، وفي كل دفاع عن العرين طهارة نية، عاش الكرة كما يعيش الصوفي تجربته الكبرى بلا زهو أو صخب، بل بتجرد يليق بمن زهد في الزينة وارتضى العشق الصامت سبيلًا.
بالنسبة له، لم تكن الكرة مجرد جلد يدحرج فوق العشب، بل كانت نفسًا من عالم آخر، لغة لا يفهمها إلا من تطهر من شوائب الذات، وعشقًا كما يعشق الدراويش: بلا طلب، بلا شرط، بلا مقابل، كما يقول أهل الطريق: «الروح لا تفهم إلا لغة الروح»، وكان هو تلك اللغة التي تمشي على قدمين، ذلك الصمت الذي يعبّر عن الولاء، وتلك الطمأنينة التي تغني عن ألف كلمة.
في عام 2009، لم يكن دخول محمد عبد الشافي إلى ميت عقبة كباقي اللاعبين، بل تسلل كما يتسلل المتصوف إلى زاوية مهجورة في جوف الليل، ارتدى القميص الأبيض ليس كزي رسمي بل كأنه «كفن» الولاء، ناصعًا من أي غرض دنيوي.
لم يركض خلف مجد شخصي أو ينتظر عقودًا فاخرة، بل اختار أن يكون خادمًا لفكرة، عاشقًا لكيان، مؤمنًا بأن الصدق في العطاء أعلى من كل الألقاب، وأن الثبات على العهد أبلغ من أي تتويج.
وسط الأعاصير التي اجتاحت جدران القلعة البيضاء من أزمات مالية ومواسم مضطربة وتغييرات في الإدارات والمدربين، ظل «شيفو» واقفًا كأحد أولياء المكان، لا يطلب شيئًا ولا يشكو، يوقع حضوره في كل مباراة بلغة الصمت، ويبصم على ولائه يوميًا من دون حبر، بعينين تقولان: «ها أنا ذا، على العهد أقيم، لا أغادر ولا أتراجع».
في 6 مايو 2014، موعد مباراة عادية بين الزمالك وتليفونات بني سويف، حدثت لحظة غيرت كل شيء، راوغ محمد عبد الشافي خصمه بخفة الماء دون أن يلمسه أو يدفعه، لكنها كانت المراوغة التي أبكت الركبة وخذلت الرباط، سقط على العشب ولم يقم، إذ كانت بداية الألم الكبير.. قطع في الرباط الصليبي كما عرف الجميع لاحقًا.
لكن ما حدث بعدها لم يكن من كرة القدم بل من مرآة الروح، حين رأى عبد الشافي خصمه يتلوى على الأرض توقفت قدماه وانطفأت كل غريزة تنافس، اقترب كمن أوجعته الرؤية لا الجسد، انحنى إلى جواره كمن يتلقى الألم عن صاحبه، لم ينطق لكنه بكى، بكى في قلب الملعب لا خجلًا ولا ضعفًا بل لأن الرحمة سالت من عينيه كما يسيل الماء من بين يدي وليٍّ متعبد.
يُقال إنه تكفل بعلاج اللاعب المصاب لاحقًا، لا حبًا في المديح أو طمعًا في التصفيق بل لأن قلبه اختار أن يكون الإنسان قبل اللاعب والرحيم قبل الرابح، كانت دموعه تلك لا تُعلق على جدار البطولات بل تُكتب في سجل الصالحين حيث لا يقاس المجد بعدد الأهداف بل بعدد المرات التي وقفت فيها الإنسانية وحدها في وسط الملعب.
ذلك المشهد الذي وثقته الكاميرات وأبكى المشاهدين لم يكن مجرد رد فعل عابر بل تجلٍ لحقيقة راسخة في شخص عبد الشافي، إذ يرى الإنسان قبل القميص والوجع قبل النتيجة، وكأن كرة القدم عنده لم تُخلق للصراع بل للرحمة والتكافل والتراحم.
كانت دموعه تلك صلاة صامتة بلا كلمات لكنها حملت معانٍ كافية لهدم كل صور التعصب والانفعال المفرط في الملاعب، علّم الجميع درسًا نادرًا في الأخلاق حين بكى بدلًا من أن يحتفل وتعاطف بدلًا من أن يتجاهل، وكأن الرحمة عنده غريزة.
أما الصمت فقد كان عبد الشافي يُتقنه كما يُتقن الكرة، حين هاجت الأزمات المالية في نادي الزمالك وارتفعت الأصوات بالشكوى والاحتجاج، كان هو الهادئ الثابت الذي يبث الطمأنينة في نفوس زملائه بوجوده والتزامه في التدريبات، صمته لم يكن ضعفًا بل صلوات خفية، نضجًا وحكمة في عالم يعج بالفوضى والضجيج.
في نهائي كأس مصر 2025، امتدت يد شيكابالا لتسلم الكأس لعبد الشافي ليس تكريمًا للاعب فحسب بل إعلانًا لتقدير الروح قبل الأرقام والإنسان قبل اللقب، رفع «شيفو» الكأس بعين دامعة وقلب خاشع كأنه يودع محرابه بعد رحلة طويلة من الإخلاص والوفاء.
إصابته في 2023 لم تُنهِ مسيرته بل فتحت أمامه فصلًا جديدًا من العطاء، لم يعتزل لأنه فقد الشغف وإنما حفاظًا على كرامته وكرامة ناديه، مع ذلك استجاب لنداء الجماهير وعاد لموسمه الأخير ليترك بصمة وداعية على أرض الملعب، رقصة الختام التي كتبت بألحان الوفاء والمحبة.
غادر «عبد الشافي» المستطيل الأخضر حاملاً إرثًا خالدًا، نموذجًا للبطل الذي يُقاس بنقاء القلب لا بعدد الأهداف، كان رمزًا للإنسانية في زمن تسيطر عليه المصالح، وصوفيًا يرى في الكرة أكثر من لعبة، طريقًا نحو الله، ليظل أيقونة الهدوء في عالم تختلط فيه الضوضاء بالجوهر، ودليلًا حيًا على أن الإنسان قادر أن يكون عاشقًا صافي الروح ويحترم اللعبة بروح مخلصة لا تعرف المهادنة.
لعب الكرة بتفانٍ عاشها كعبادة، وصنع من كل مباراة صلاة، ومن كل لمسة تأملاً، ومن كل دمعة درسًا في الرحمة.. هكذا كان محمد عبد الشافي، الصوفي الأخير في محراب الكرة.
سلام عليك يوم ارتديت الأبيض كأنك تلبس نور الفجر في محراب خاشع.
وسلام عليك حين رفعت الكأس والعينان ترويان قصص الوفاء والصدق.
وسلام عليك يوم ودعت الملعب وحملت في قلبك شعلة الإخلاص التي لا تنطفئ.
سلام لمن سار في درب العشق الصوفي وحول كل لمسة كرة إلى صلاة تتردد أصداؤها في السماء.
تعليقات